سبتمبر... عهد يتجدد لا ذكرى تُروى

2025-09-08

سبتمبر... عهد يتجدد لا ذكرى تُروى


أ. أوسان محمد سعيد

رئيسة دائرة المرأة بالمجلس الأعلى للمقاومة الشعبية


لم تولد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر من فراغ، بل كانت ثمرة وعي عميق ومعاناة طويلة، حمل مشعلها رجالٌ آمنوا أن الكلمة والرصاصة معًا طريق الحرية. فخلّد التاريخ أسماءً أبت أن تُمحى: محمد محمود الزبيري شاعر الثورة وضميرها، وأحمد محمد نعمان عقلها المفكّر، وعبدالله السلال قائدها العسكري وأول رئيس للجمهورية، وعلي عبدالمغني بطلها الشهيد الذي فجّر فجرها بدمه، ومعهم رفاق من الضباط الأحرار وزعماء القبائل وأبناء الشعب الذين كسروا جدار العزلة وصنعوا للوطن مجده الجديد.


إن استدعاء هذه الرموز اليوم ليس استغراقًا في الماضي، بل إيقاظًا للذاكرة الوطنية، كي تدرك الأجيال أن الثورة ليست حدثًا عابرًا، ولا شعارات واحتفالات، بل هي سلوك وثقافة تُنتج حضارة.


سبتمبر لم يكن ضربة حظ ولا لحظة عابرة، بل نتاجًا لنضال وآلام وتجارب وخيبات لم تعرف الانكسار ولا الاستسلام يومًا، وتراكُمًا لوعي نخبة مثقفة آمنت بالمشروع الوطني الكبير، ورفضت مشاريع الاستبداد والتخلف. كانت الثورة ميلادًا جديدًا أعاد تعريف هوية الإنسان اليمني من تابعٍ لمشاريع الهيمنة والحق الإلهي إلى مواطن شريك في القرار والكرامة.


لكننا، وبعد أكثر من خمسة عقود، ما زلنا عالقين في دورة صراعات متجددة، وقد تجلّى أخطرها في صراع العقد الأخير الذي أعادنا إلى أجواء الثورة الأم، وكأن أسبابها أعيد إنتاجها في ثوب آخر وبطواغيت جدد، انقلبوا على أهدافها وخانوا رموزها... فهل لنا أن نبحث عن جذور العطب؟


- سبتمبر كانت "فكرة جامعة" فتحولت إلى "ملك خاص" من صور الرئيس إلى الزعيم إلى الحزب.

- سبتمبر كان عقدًا اجتماعيًا فصار "سلطة"، وصارت الدولة ملكًا للعائلة لا للشعب.

- سبتمبر كان إدارة للاختلاف فتحول إلى اقتتال دموي بدل أن يكون تنافسًا في خدمة البلد.

- سبتمبر هو سيادة الدولة، فتحوّل إلى مقايضة الوطن بالخارج مقابل بقاء زعيم أو حزب.

- سبتمبر حملته ورفعته النخب: المثقف، العالم، التاجر، الإعلامي... وحين خانت كثير من النخب أدوارها، أُسكت العقل الجمعي وجُمّل القبح.


لقد تحوّل تعاطينا مع الثورة إلى مجرد ذكرى وشعار وقصة "كان يا ما كان"، ونسينا مكتسباتها وأسباب قيامها وكيف نحافظ عليها. فآوينا إلى الظل طويلًا وطالت فينا استراحة المحارب. والحقيقة أن النخب المثقفة هي التي يفترض أن تقود التحولات التاريخية، غير أن انحسار دور الشعب بعد الجمهورية، وتراخي وعيه، سمح للنخب بأن تفقد البوصلة وتستبدل مشروعها الوطني بمعاول تهدم ما شُيّد بالدم، فتوسعت دوائر الصراع وسقط السقف على الجميع.


إن ما نشهده اليوم من أحداث عالمية وإقليمية ومحلية يمثل فرصة لإعادة تعريف الثورة كامتداد لنضال الأحرار، واستلهام قوتهم وصمودهم، ومواصلة الرباط والفعل المقاوم في المسارين العسكري والمدني على السواء. فلا بد من هبّة شعبية ثورية تقاوم المشاريع الصغيرة وتؤسس للمشروع الوطني الكبير، الذي سيكون طوق نجاتها الأخير. وإن تعاطينا مع الأحداث ومدافعتنا لها يمثل صيرورتنا التاريخية: نكون أو لا نكون. وسكوتنا يعني بالضرورة ظهور مشاريع أكثر دموية وظلامية، فنصل إلى طريق اللاعودة. فلا بد من استعادة الفكرة؛ فالثورة ليست ضد شخص، ولكنها لأجل مشروع. ولا نهضة بوصاية الخارج، إذ تبدأ النهضة بنهضة الإنسان (تعليم، وعي، أخلاق، إنتاج). وإن الثورة تبدأ من داخلنا باقتلاع "الدكتاتور الداخلي" الذي يبرّر الفساد والخوف.


إن أخطر ما يطفئ الشعوب ليس الدبابات ولا الجيوش، بل الاعتياد على القبح، على الفساد، على الظلم. ولكن... في أعماق هذا الوطن جذوة لا تنتهي، ومن بين الركام لا يزال هناك نور يبحث عن أفق. وما دمنا نملك روحًا قلقة لا ترضى بالظلم، ولا تستكين للأصنام، ولا تقبل المقايضة، فسنبقى ذلك الأفق الذي يسمح للنور أن يعبر. لن نعتاد المشهد، ونتذكر دائمًا أن الثورة ليست في الميادين فقط، بل في الوعي اليومي، وأن الهزيمة ليست حين يسقط الوطن، بل حين نستسلم داخله.


إننا اليوم نحمل شعلة الثورة، وهي بداية حريق يلتهم الديكتاتورية والجهل لتبقى الأرض خصبة لبذور الحرية. ويومًا ما سنقوم وننهض؛ ذلك يوم من الدهر لم تصنع أشعته شمس الضحى، بل سنصنعه بأيدينا، بقدر إيماننا الكبير والفكرة التي نحملها، وبقدر انتمائنا لهذا الوطن سنقوم وننهض. بقدر خيباتنا وما نشعر به من غربة في هذا الوطن سنقوم وننهض. حين نحول شعاراتنا وكلماتنا إلى مشاريع عمل ونتدرج في شعب الإيمان، ونبدأ من إماطة الأذى عن الطريق سنقوم وننهض. حين تتعلم النخب الدرس جيدًا بأن لا طائر يطير بجناح واحد ولا يد تصفق وحدها سنقوم وننهض.


ختامًا: الثورة ليست ذكرى تُروى، بل عهدٌ يتجدد، ومسؤولية جيلٍ يحمل الأمانة ويصون الدماء، ويقود الأمة نحو استنهاض حضاري منشود. فامضوا يا أحرار، فكل حلقة وعي ثورة جديدة.